أول لقاء في حديقة الـدموع
هي أشبه بحديقة أموات .. أغصانٌ جافه ،، ومقاعد مهترئه أرجلها صدئه .. لا شيء هناك سوى النمل الأسود – سريع الحركة – الذي كان يتصبب عرقاً من كثرة الهروله ... وبعضُ أكواب القهوه الفارغة التي تركها من سبقني للمكان .جلست مطولاً الجلوس ... متكئاً على باطن يدي ,, أعد الساعات بعد هروبي من المدرسة .. وأنتظرها .. أنتظر مجهولتي .... دقت ساعة الشمس وثدها الحار عامودياً فوق رأسي ... ولا ظلال هناك ... واستقًرَّتْ قرابة الساعه .. ولا أحد هناك سواي والنمل الأسود ...وفجأة وإذا بي أسمع ضحكات مشتركه ، فالتلفت يميناً فلم أرى شيئاً ، وكررتها شمالاً ، فرأيتها .. لم أستطع حينها أن أزغ بصري عما لمحت ، كانت كما الضوء للأعمى ، والظل للهجير ، كانت .. وكانت ... وليتها لم تكن .. فقد غدت كما لم تكن .مددت لساني مرطباً شفتاي اللتان تشققتا من العطش والحر وطول الإنتظار .. ومسحت بباطن يدي وجهي المتعرق بلطف ، وتمتمت بشفتاي بما لا أدري .. إنها رهبة الموقف ، وتشتت الأفكار . اقتربت وكانت كلما تقترب أكثر ينشد قلبي ويضمر بخفقاتٍ متزايده تفوق العاده بوَقعها ، نظرت إلى السماء بعينين مفتوحتين ، فما لبثت أن فعلت حتى أصابني عمىً لحظي ، فما عدت أقوى على الإبصار ، فقد قابلت عيناي عين الشمس الملتهبه ، فنالتا جزائهما القاسي على فعلة التحديق والبحلقة بالقرص الناري. ترافق مع ذلك رائحة كأنها عبير من الجنة ، فطاف العطر بالمكان فلامس أنفي فاستيقظت وابصرت ؛ حينها تناسيت كل ما حدث ، وتركت الأمر لأنفي الذي طالما صدق إحساسه ، كان عطرها وكان عبيرها هو من أيقظ بي الإحساس .اقتربت مني بلطف وهدوء شديدين ، وكأنها كانت في تلك الأثناء تخاف أن تثير الأرض إن هي أصدرت صوتاً لقدميها.أتت ، وجلست ، فأصابني زلزال أجبر جسدي على الإرتعاش ، فانتفضتُ حتى أحسست بفروة رأسي قد تجمدت ، صحت بصوت خافت :- "مولاتي" ، لم أدر ما الذي أجبرني حينها على قول تلك الكلمة ، أهو الحب أم الشوق أم هو الهيام بأم عينه ..ضَحِكَتْ بصمتٍ جعلني أحمر خجلاً ، وقالت : بل أنت مولاي ولست أنا .حينها أحسست بملكيتي للكون بأسره ،ورافقت ابتسامتي عبرة لم أعرف معناها ولا سبب نزولها ، فرحاً أم حزناً كانت ، رهبة أم وصول كانت ، كان الإعتراف الأول بوجودي في هذا الكون ، التزمت الصمت قليلاً ثم باحت ، وقالت : أنا أحبك ...صدقاً ، لم أستطع أن أرد بسرعة بديهة كالعادة وكما عهدت نفسي ، إذا أنني تلجمت عن الكلام بضع دقائق ،لم أشعر بشيء سوى تلك الإرتعاشة وتلك العبرة التي ذرفتها عيني دون إذن مني ، وما زلت أتذكرها حتى اللحظه ....وبعد ذلك الموقف بحوالي ربع ساعةٍ من الصمت ، لامست يدها كتفي اليمين ، وربتت عليه ، وتمتمت بصوتٍ خافت ، وقالت: أتمنى أن لا يفرقنا مخلوق ، ولكن للأسف ، لم يستجب الله لدعائها ، فكانت هي المخلوق الذي سَبّب الفراق وتبعاته ، لم أكتوي يوم لقياها ولم أكتوي خلال سبع سنوات تعايشت فيهن معها ، ولكني اكتويت من فراقها ، وغربتي ، وحتى قصائدي التي كتبت لها همت بقتلي ...في ذلك اليوم ، مشينا كثيراًَ ، وتحدثنا فوق طاقة الكلام ، حتى أننا لم نشعر بألم أقدامنا وشكوى أحذيتنا من كثرة المشي ، ولا بعطش أفواهنا من كثرة الثرثرة ، مشينا حتى تعبت الطريق منا ، فهدانا الله أن نعود لمنازلنا ،،، فعدنا والشمس خلفنا تعانق الجبل وتهم بالنزول خلفه.أوصلتها لشارعها التي تسكن بين زقاقه ، ورمقني جميع صبيان الحي ونسائه وشيوخه ، حتى الجدران ظننتها ترمقني .وفي اليوم التالي ، جلست مرة أخرى مطولاً الجلوس ، ولكن لم تأتي ... وغابت شمسي الثانيه في ثاني أيام ولادة حبي الأول ، ولم تأتِ ... واليوم الثالث أتى وما بعده من أيام ،، إنتظرتها طويلاً ، حتى مل من إنتظاري الإنتظار ، وأقام مقعدي دعوى ضدي ، وبعد قرابة الشهر من الإنتظار والإلتزام المتواصل بالزمان والمكان ، أتت من جديد ، جائت تحترف ضحكةً جديده ، ولباساً أحمراً جميلاًَ ، وحقيبةً أوسع من سابقتها...حاولت الإستيقاظ ظناً مني أنه حلم ، ولكن أفاق الحلم من صحوي الحالم ، وإذ بها هي بلا منازع ومن دون أي ريبة ولا أدنى شك ...وقَفتُ كما الجندي الذي تهيأ لإلقاء التحية على قائده ، ولكن سرعان ما هبطت عائداً لمقعدي ، تفاجئت ، وترهل قلبي وخفت حدة بصري ، تشبهها ولم تكن هي ، زاد تفكيري بها ، وأصبحت أراها في وجوه جميع البشر ، حتى الرجال منهم ، فانتظرت ذوانتظرت ، دون جدوى ، فأصابني اليأس والإحباط ولم أعد أرتاد المكان ثانيةُ ، فقد كانت بمثابة خدعة بصريه وألعوبة فكريه ، وكنت أنا بمثابة الحالم الذي يتهيأ له ما لا يملكه واقعاً ،،، عشتها وهماً ،، وكان الواقع بعيداً عنها كبعد ابرد الكواكب عن أشدها حرارة ... أحسست حينها أن عيناي ليستا ملكاً لي ، وأن الدمع عندي يستمد فرعه من أكبر محيطات العالم ، وكان محجرهما نبعاً فياضاَ ،، فما عدت أستطيع الحكم عليهما بالتوقف .. أقسمت حينها قسم الغضبان بأن لا أعود لانتظاري القاتل ،،، ولكن ما لبثت حتى عدت للإنتظار والبحث والدموع....... وللحديث بقية....